شروط وموجبات الإعفاء من العقوبة في جرائم الفساد
القاضي أحمد الأشقر
أصدرت
محكمة جرائم الفساد في فلسطين عددا من الأحكام القضائية بإدانة متهمين في جرائم
الفساد، وقد قضت هذه المحكمة في العديد من القضايا بإعفاء المتهمين من العقوبة بعد
إدانتهم بالتهم المسندة لهم وذلك عملا باحكام المادة 25 فقرة 2 من قانون مكافحة الفساد
رقم (1) لسنة 2005 المعدل بالقرار بقانون رقم (7) لسنة 2010، ولعل مسألة الإعفاء
من العقوبة في جرائم الفساد على وجه الخصوص قد تثير الرأي العام حول موجباتها،
لاسيما أن المجتمع يرغب في إشباع شعوره في العدالة من خلال إستيفاء حق المجتمع في
معاقبة الفاسدين المدانين، وهذا ما يطرح تساؤلات حول جدوى الإعفاء من العقوبة في
جرائم وموجباته ودوافعه التشريعية والقضائية، الأمر الذي يتطلب أن يتم توضيح ذلك
من خلال قراءة السياسية التشريعية التي دفعت المشرع للإباحة التشريعية بالإعفاء من
العقوبة في جرائم الفساد وشروط هذا الإعفاء.
بداية
لابد من الإشارة إلى أن قانون العقوبات رقم 16 لسنة 1960 قد أباح الإعفاء من
العقوبة في العديد من المواد التجريمية الواردة فيه، منها الإعفاء من عقوبة الرشوة
عملا بأحكام المادة 172/2 من قانون العقوبات رقم 16 لسنة 1960، والإعفاء من
الجرائم الواقعة على أمن الدولة عملا بأحكام المادة 109/1 من ذات القانون، وإعفاء من
يمتثلون لأوامر الضابطة العدلية عملا بأحكام المادة 166 من ذات القانون، وقد
أوردالمشرع هذه النصوص بإعفاء مرتكبيها من العقاب انطلاقا من دوافع متعددة مثل
حماية القيم المجتمعية والسلم الأهلي أو تسهيلا للكشف عن مرتكبي الجرائم.
وعلى
مستوى جرائم الفساد، نصت المادة (25/2) من
قانون مكافحة الفساد رقم (1) لسنة 2005 المعدل بالقرار بقانون رقم (7) لسنة 2010
على أنه "يعفى من العقوبة المقررة في هذا القانون كل من بادر من الجناة بإبلاغ
الهيئة عن جريمة فساد قبل علمها بها أو أي من السلطات المختصة، فإذا حصل الإبلاغ بعد
العلم بالجريمة تعين للإعفاء أن يكون من شأن الإبلاغ ضبط باقي الجناة، والأموال محل
الجريمة" ، وفي هذا السياق تكمن الحكمة التشريعية وموجبات الإباحة بإعفاء
المدانين من العقوبة بجرائم الفساد في رغبة المشرع بتسهسل الكشف عن هذه الجرائم
نظرا لطبيعتها الخاصة ،وسريتها الشديدة، وصعوبة اكتشافها وكذلك صعوبة الحد من
تأثيراتها لاسيما في الجانب المتعلق باستراد الأموال العامة محل الجريمة، لذلك نجد
أن المشرع قد نص على الإعفاء من هذه العقوبة في محاولة لاستمالة الجناة للكشف عن
جرائمهم، أو جرائم شركائهم، أو تسهيلا للكشف عن معلومات تؤدي بالنتيجة عن التوصل
لجناة آخرين أو لاسترداد الأموال المنهوبة.
وهكذا
تبدو موجبات الاعفاء من العقوبة في جرائم الفساد كامنة في الهدف العام من وراء
إقرار قوانين مكافحة الفساد والتي تستهدف بالأساس مكافحة الفساد والتخفيف من آثاره
على الأموال والإدارة العامة حيث لا يقتصر هدف التشريع بتحقيق الردع والزجر
العقابي فقط، وإنما بإيجاد السبل وتوفير المعالجات التشريعية لمكافحة الفساد، لذلك أوجد المشرع أسلوبا دافعا لمكافحة الفساد
من خلال حث الجناة على الكشف عن جرائمهم وتقديم
المعلومات للجهات المختصة، وهذا ما يؤدي بالنتيحة إلى تحقيق مقاصد المشرع من وضعه
لقوانين مكافحة الفساد، وقد جرت على هذا الاتجاه أغلب قوانين مكافحة العربية ومنها
قانون هيئة مكافحة الفساد الأردني رقم (62) لسنة 2006 الذي أعفى من ثلثي العقوبة في جرائم الفساد
وذلك بموجب المادة 27/أ منه والتي نصت على أنه "يعفى من ثلثي العقوبة كل من كان
فاعلاً أو شريكاً أو متدخلاً أو محرضاً في جريمة فساد قدم للهيئة أو للسلطات المختصة
معلومات أو أدلة أو بينات أدت إلى استرداد الأموال المتحصلة عن الفساد"
كما أن
هذا التوجه يتفق مع اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والتي نص في المادة 37 منها
على:
1- تتخذ كل دولة طرف تدابير مناسبة لتشجيع الأشخاص الذين
يشاركون أو شاركوا في ارتكاب فعل مجرّم وفقا لهذه الاتفاقية على تقديم معلومات مفيدة
إلى السلطات المختصة لأغراض التحقيق والاثبات، وعلى توفير مساعدة فعلية محددة للسلطات
المختصة يمكن أن تسهم في حرمان الجناة من عائدات الجريمة واسترداد تلك العائدات.
2- تنظر كل دولة طرف في أن تتيح، في الحالات المناسبة، إمكانية
تخفيف عقوبة المتهم الذي يقدم عونا كبيرا في عمليات التحقيق أو الملاحقة بشأن فعل مجرّم
وفقا لهذه الاتفاقية.
3- تنظر كل دولة طرف في إمكانية منح الحصانة من الملاحقة القضائية، وفقا للمبادئ
الأساسية لقانونها الداخلي، لأي شخص يقدم عونا كبيرا في عمليات التحقيق أو الملاحقة
بشأن فعل مجرّم وفقا لهذه الاتفاقية.
وإذا
كان المشرع الفلسطيني قد انتهى من حيث
المبدأ إلى جواز الإعفاء من العقوبة المقررة في لجريمة الفساد، فإن هذه الجوازية
مقيدة بشروط محددة تحديدا تدقيقا ليصار إلى إعفاء الجاني من العقوبة وجوبا عند
توافر هذه الشروط، ويمكن بيان هذه الشروط من خلال استقراء مقاصد المشرع في (25/2) من
قانون مكافحة الفساد رقم (1) لسنة 2005 المعدل بالقرار بقانون رقم (7) لسنة 2010
ويمكن إجمالها بالتالي:
1- الإعفاء يجب أن يكون بعد صدور الحكم بالإدانة: ومؤدى ذلك أن الاعفاء من
العقوبة لا يعني وقف الملاحقة، إذا ان الملاحقة الجزائية وتحريك الدعوى الجزائية واجبة مواجهة المتهم
وان الإعفاء يكون بعد صدور الحكم.
2- الإعفاء يجب أن يكون بحكم قضائي: ومؤدى ذلك أن إعفاء الجاني يجب أن يصدر عن
الهيئة القضائية المختصة وليس عن أية جهة أخرى، وهذا يعني أن لهذه المحكمة وحدها
دون غيرها البحث في مدى تحقق الشروط الموجبة للإعفاء ليصار إلى تقرير ذلك في متن
الحكم القضائي إن ثبت للمحكمة توافر هذه الشروط.
3- الإعفاء من متعلقات النظام العام: ومؤدى ذلك أن للمحكمة أن تثيره وأن تحكم به
من تلقاء نفسها حال توافر شروطه لأنّ نص المادة(25/2) من قانون مكافحة الفساد رقم
(1) لسنة 2005 المعدل بالقرار بقانون رقم (7) لسنة 2010 قد جاء آمرا وليس جوازيا.
4- يجب أن يبادر الجاني إلى إبلاغ هيئة مكافحة الفساد عن جريمة فساد قبل علم
الهيئة بها أو علم أي من السلطات المختصة:
ومؤدى ذلك أن الجاني يجب أن يقوم من تلقاء نفسه وقبل ان تكون الهيئة أو أية جهة
مختصة كأفراد الضابطة القضائية أو الجهات الإدارية المتخصصة قد باشرت في جمع
الاستدلالات او التحقيق أو جمع الأدلة وغيرها من الإجراءات الكاشفة عن الجريمة،
وهذا يقود إلى القول أن مباشرة الهيئة جمع الاستدلالات والتحري والسؤال أودعوة
المشتبه به او تقدم أحد ما بشكوى أو إخبار يعتبرا
فعلا مسقطا للإعفاء من العقوبة، ذلك أن المشرع منزه عن اللغو والعبث حين
وضع عبارة (العلم)، وهذا يفترض أن يكون العلم سابق على مباشرة التحري وجمع
الاستدلالات أوقيام الدليل او انتهاء التحقيقات أومباشرة تحريك الدعوى، وعلى ذلك فإنه لا يتوجب الإعفاء من الجريمة إذا
ما اعترف المتهم أمام النيابة العامة أو المحكمة أو الهيئة بعد استجوابه أو سؤاله،
تجد الإشارة إلى أنّ محكمة جرائم الفساد قد أصدرت حكما بإعفاء أربعة متهمين من
عقوبة جريمة الرشوة وذلك بسبب اعترافهم بالجرم المسندة لهم قبل إحالة القضية إلى
المحكمة، وذلك سندا للمادة 172/2 من قانون العقوبات رقم 16 لسنة 1960، وهذا اتجاه
نقره لأن نص المادة المذكورة واجب التطبيق كونه ينظم إجراءات الملاحقة بجريمة
الرشوة على وجه الخصوص ولكونه يعتبر احد تطبيقات القانون الأصلح للمتهم.
5- إذا حصل الإبلاغ
بعد العلم بالجريمة تعين للإعفاء أن يكون من شأن الإبلاغ ضبط باقي الجناة، والأموال
محل الجريمة، ويلاحظ في هذا السياق أن المشرع لم يشترط أن يحقق إبلاغ الجاني عن الجريمة
قبل علم الهيئة الكشف عن جناة آخرين أو الأموال محل الجريمة، وإنما يكتفى بمجرد
الإبلاغ، إلا أن المشرع اشترط وعلى وجه التحديد ان يحقق الإبلاغ بعد علم الهيئة
نتيجة مؤداها الكشف عن جناة آخرين أو الأموال محل الجريمة، فإذا كانت الجريمة ليست
واقعة على أموال أو أن الأموال مضبوطة لدى الهيئة فإنه لا وجه لإعفاء الجاني في
هذه الحالة لاسيما إذا لم يكن له شركاء في الجريمة يمكن له الإبلاغ عنهم.