في سابقة قضائية .. صلح رام الله تحيل نص مادة في قانون العقوبات إلى المحكمة الدستورية لمخالفته الحقوق والحريات
رام الله - دنيا الوطن
قررت اليوم محكمة صلح رام الله هيئة القاضي أحمد الأشقر في الدعوى الجزائية رقم 3438/2013 إحالة المادة 389/5 من قانون العقوبات رقم 16 لسنة 1960 إلى المحكمة العليا بصفتها الدستورية للنظر في دستورية هذه المادة من حيث مخالفتها لأحكام المواد 11 و20 و15 و14 من القانون الأساسي المعدل لسنة 2003.
ورأت المحكمة في قرارها أنّ ما ورد في هذا النص "بتجريم كل من وجد متجولاً في أي ملك أو على مقربة منه أو في أية طريق أو شارع عام أو في مكان محاذٍ لهما أو في أي محل عام آخر"، يودي إلى انتهاك الحق في الحرية الشخصية، والحق في التنقل، والحق في افتراض البراءة، ويخالف المبدأ الدستوري القاضي بأنّ لا عقوبة ولا جريمة إلا بنص.
وبيّنت المحكمة أنّ غموض هذا النص القانوني يجعل منه أداة لقمع الحريات، تستخدمه السلطة العامة متى شاءت، وتتركه متى شاءت، دون رقيب أو حسيب، وأشارت المحكمة إلى أن استخدام التعابير الفضفاضة في النص التجريمي يجعل من الفعل المجرم بموجبه يتسم بعدم الوضوح، بحيث أن الشخص العادي يكون عليه لزاما أن يتكهن بمعناه، ولا يستطيع أن يحدد مجالات تطبيقه، مما يثير الشبهة بعدم دستوريته من حيث المبدأ.
ورأت المحكمة أنّ عّلة هذا الاشتباه تكمن في أنّ التشريع الذي يحتوى على عبارات غامضة وفضفاضة غير واضحة الدلالة سيكون بمثابة السيف المسلط على رقاب الناس، وأن خطر النصوص الغامضة يتعدى الشخص الماثل أمام هذه المحكمة في الدعوى الموضوعية فقط، بل يمتد إلى المواطنين الآخرين الذين سيمتنعون عن القيام بأعمال محمية بموجب الدستور خوفا من الاصطدام مستقبلا بالمحظورات التي يضعها التشريع.
يذكر أنّ المادة 27 من قانون المحكمة الدستورية قد أتاحت للمحاكم الأخرى إحالة أي قانون أو مرسوم أو لائحة أو نظام أو قرار لازم للفصل في النزاع إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في المسألة الدستورية، ويعتبر هذا القرار السابقة القضائية الأولى التي يتم في إحالة نص قانوني إلى المحكمة العليا بصفتها الدستورية لمخالفته الحقوق والحريات الأساسية للمواطن.
ودنيا الوطن تنفرد بنشر نص القرار كاملا:
دعوى جزاء صلح رام الله رقم : 3438/2013
الهيئة الحاكمة : القاضي أحمد الأشقر
قرار
بعد التدقيق في أوراق هذه الدعوى وفي سند القانون، تجد المحكمة ما يلي:
أسندت النيابة العامة للمتهم في هذه الدعوى تهمة التواجد في ظروف تجلب الشبهة خلافا لأحكام المادة 389/5 من قانون العقوبات رقم 16 لسنة 1960 والتي تنص على" كل من: وجد متجولاً في أي ملك أو على مقربة منه أو في أية طريق أو شارع عام أو في مكان محاذٍ لهما أو في أي محل عام آخر في وقت وظروف يستنتج منه بأنه موجود لغاية غير مشروعة أو غير لائقة، يعاقب في المرة الأولى بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر أو أن تقرر المحكمة إحالته على أية مؤسسة معينة من قبل وزير الشؤون الاجتماعية للعناية بالمتسولين لمدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على ثلاث سنوات."
وباستقراء المحكمة لعناصر التجريم في هذه المادة تجد أن ما حملته هذه المادة من سياسة جنائية عقابية يثير الشبهة بعدم دستوريتها من عدة أوجه وهي:
أولاً: شبهة مخالفة أحكام المادة (15) من القانون الأساسي المعدل لسنة 2003 والتي تنص على أنّ "العقوبة شخصية، وتمنع العقوبات الجماعية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لنفاذ القانون."
وتجد المحكمة في هذا السياق أن المشرع الدستوري قد أكد على أنّ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وهذا المبدأ الدستوري المرعي النفاذ يفترض أن يكون القانون الجزائي قد نص على الجريمة بصورة محددة تحديدا نافيا للجهالة، وأن يكون هذا النص منزها عن اللبس والغموض، وإلا أصبحت الحقوق والحريات العامة عرضة للتأويلات والتفسيرات التي تذهب بهذا المبدأ مذهب الريح، وتجعل من النص القانوني الجزائي سيفا مسلطا على رقاب المواطنين، لاسيما أنّ غموض النص القانوني يجعل منه أداة لقمع الحريات، تستخدمه السلطة العامة متى شاءت، وتتركه متى شاءت، دون رقيب أو حسيب، وفي هذا تجد المحكمة أن نص المادة 389/5 من عقوبات العقوبات رقم 16 لسنة 1960 قد جاء غامضا فضفاضا بما يجاوز الحكمة التشريعية من النص الدستوري القاضي بأنّ لا عقوبة ولا جريمة إلا بنص، وهذا ما تستدل عليه المحكمة مما ورد في هذا النص بتجريم كل من وجد متجولاً في أي ملك أو على مقربة منه أو في أية طريق أو شارع عام أو في مكان محاذٍ لهما أو في أي محل عام آخر، مع عدم تحديد الفعل الجرمي والنتيجة الجرمية على وجه الدقة، ومؤدى ذلك أن التعميم الذي ورد في هذه المادة يجعل من الفعل الجرمي المعاقب عليه بموجبها غير واضح، وقد استقرت بعض اجتهادات القضاء الدستوري المقارن على الحكم بعدم دستورية أي تشريع يتضمن سياسية عقابية غير واضحة، وذلك باستخدام نصوص فضفاضة في تعبيرها ومقاصدها بما يستهدف إحداث قيود غير واضحة تسمح بتقييد الحريات، (أنظر،محمد الخضر، القضاء والإعلام، حرية التعبير بين النظرية والتطبيق، دراسة مقارنة (رام الله: المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية، مدى، 2012، الصفحات32، 33، 67)، وحيث أن استخدام التعابير الفضفاضة في النص التجريمي يجعل من الفعل المجرم بموجبه يتسم بعدم الوضوح، بحيث أن الشخص العادي يكون عليه لزاما أن يتكهن بمعناه، ولا يستطيع أن يحدد مجالات تطبيقه، مما يثير الشبهة بعدم دستوريته من حيث المبدأ، وعّلة هذا الاشتباه تكمن في أنّ التشريع الذي يحتوى على عبارات غامضة وفضفاضة غير واضحة الدلالة سيكون بمثابة السيف المسلط على رقاب الناس، وأن خطر النصوص الغامضة يتعدى الشخص الماثل أمام هذه المحكمة في الدعوى الموضوعية فقط، بل يمتد إلى المواطنين الآخرين الذين سيمتنعون عن القيام بأعمال محمية بموجب الدستور خوفا من الاصطدام مستقبلا بالمحظورات التي يضعها التشريع، وهذا ما يشكل مساسا بشرعية العقوبة والجزاء التي تعبر عنها القاعدة الدستورية القاضية بأن لا عقوبة ولا جريمة إلا بنص، ولما كان الأمر كذلك، فإن غموض وعدم وضوح نص المادة 389/5 من قانون العقوبات رقم 16 لسنة 1960يسمح بتقييدات غير مبررة لحقوق المواطن مما يستنهض ولاية المحكمة العليا الموقرة بصفتها الدستورية للنظر في مدى دستوريته ومدى مخالفته للمبدأ الدستوري القاضي بأنّ لا عقوبة ولا جريمة إلا بنص.
ثانياً: شبهة مخالفة أحكام المادة (20) من القانون الأساسي المعدل لسنة 2003 والتي نصت على أنّ "حرية الإقامة والتنقل مكفولة في حدود القانون." وحيث أن التجوّل في الأماكن العامة هو أحد تعبيرات الحرية في التنقل، وحيث أن القانون الجزائي لا ينبغي له أن يفرض قيودا مرهقة على المواطن لمنعه من ممارسة هذا الحق، وحيث أنّ إحالة المشرع الدستوري تنظيم هذه الحقوق إلى المشرع العادي لا يعني إطلاق يده في تنظيمها بداعي النظام العام، بل ينبغي على المشرع العادي أن يلتزم بالضوابط الدستورية في حدودها الموضوعية، وأن لا يصل تنظيم هذه الحقوق إلى حدّ إهدارها أو المصادرة الكلية لها، أو أن يفرض قيودا على الحريات والحقوق بما يجعل من الشاق ممارستها، وحيث أنّ عبارة (في حدود القانون) لا تعني أن يصادر القانون (التشريع العادي) هذا الحق، وإلا اصبح النص الدستوري ضربا من ضروب العبث، يتجنى عليه المشرع العادي بالانتقاص والتقييد والمصادرة باسم القانون، فيصير الدستور حينها بما اشتمل من حقوق أساسية للمواطنين مجرد ديباجة لا تلقى صدى في التطبيق الواقعي، وحيث أنّ نص المادة 389/5 يفرض قيودا مرهقة على الحق في التنقل والتجول ويعاقب عليها دون مسوغ معقول، فإنّ المحكمة تجد أنّ في ذلك ما يثير الشبهة بمخالفة أحكام المادة 389/5 من قانون العقوبات رقم 16 لسنة 1960 للقاعدة الدستورية الواردة في المادة 20 من القانون الأساسي المعدل لسنة 2003 مما يستنهض ولاية المحكمة العليا الموقرة بصفتها الدستورية للنظر في مدى دستوريته.
ثالثاً: شبهة مخالفة أحكام المادة (14) من القانون الأساسي المعدل لسنة 2003 والتي نصت على أنّ " المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه، وكل متهم في جناية يجب أن يكون له محام يدافع عنه."
وتجد المحكمة في هذا السياق أنّ قرينة البراءة هي مبدأ دستوري مرعي النفاذ، ويفترض هذا المبدأ، أن تكون إجراءات الملاحقة القضائية المفضية إلى الإدانة قائمة بالأساس على الجزم واليقين، لا على الشك والتخمين، ذلك أنّ قرينة البراءة كأصل دستوري مقرر تستدعي أن يكون التجريم مؤسسا على الإثبات المستمد من أوراق الدعوى ووقائعها، وأن لا يكون مبنيا على الاستنتاج والشبهة، ويفترض ذلك ان يكون التشريع الجزائي جازما بواقعة ثابتة فعلا مفضية إلى نتيجة جرمية ملموسة، لا مستقاة من ظروف تقوم على الشك، وتجد المحكمة وعلى ضوء ذلك أن نص المادة 389/5 من قانون العقوبات رقم 16 لسنة 1960 قد خالف قرينة البراءة بأن جعل أساس التجريم قائما على الاستنتاج، هذا ما تستدل عليه المحكمة مما ورد في متن هذه المادة حين نصت على (وظروف يستنتج منه بأنه موجود لغاية غير مشروعة أو غير لائقة)، ولما كان الأمر كذلك، فإنّ هذه المحكمة تجد أن لا يستقيم التجريم على فرض الاستنتاج، وإنما على الجزم واليقين، ذلك أنه وإن كان الأمر غير كذلك، فإنّ المواطن سيكون عرضة للتجريم والإدانة والعقوبة، دون معيار سليم وواقعي يتيح له الدفاع عن نفسه في محاكمة عادلة، وهذا ما سيؤدي إلى بث الرعب في أوساط المواطنين وحرمانهم من حقوقهم في التنقل والحرية الشخصية خوفا من الملاحقة القضائية، وحرمانهم بالنتيجة من الدفاع عن أنفسهم، وإخضاعهم لاستنتاجات أفراد متابينة من شخص إلى آخر ومن بيئة مجتمعية إلى أخرى، ، لاسيما أن هذه المادة لم تحدد النتيجة الجرمية للفعل المجرمّ وعلاقة السببية التي تربط هذا الفعل بهذه النتيجة، مما يستهض ولاية المحكمة العليا الموقرة للنظر في مدى دستورية هذه المادة ومدى مخالفتها للمبدأ الدستوري القاضي بتوافر قرينة البراءة.
رابعاً: شبهة مخالفة أحكام المادة 11 من القانون الأساسي المعدل لسنة 2003 والتي تنص على أنّ "1- الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مكفولة لا تمس.
2- لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأي قيد او منعه من التنقل إلا بأمر قضائي وفقاً لأحكام القانون، ويحدد القانون مدة الحبس الاحتياطي، ولا يجوز الحجز أو الحبس في غير الأماكن الخاضعة للقوانين الصادرة بتنظيم السجون".
وحيث تجد المحكمة أن الركن المادي لهذه الجريمة يقوم معاقبة كل يتجول في أي ملك أو على مقربة منه أو في أية طريق أو شارع عام أو في مكان محاذٍ لهما أو في أي محل عام آخر، ولما كان فعل التجول كما يتراءى لهذه المحكمة هو فعل غير مجرّم بطبيعته وانه هو جزء من الممارسة الاعتيادية المشروعة والمتوقعة لكل مواطن لاسيما في الأماكن العامة والشوارع العامة وفي أي وقت سواء في الليل او النهار، فإنّ المحكمة تجد أنّ هذه المادة الجرمية قد انتهكت حقّ الحرية الشخصية للمواطن بالتجول في الأماكن والشوارع العامة وفرضت قيودا غير مبررة على ممارسة المواطن لهذا الحق، لا سيما أنّ هذه المادة لم تقم على بيانٍ واضحٍ للنتيجة الجرمية المرتبطة بعلاقة سببية منطقية ومعقولة ليصار إلى فرض جزاء على كل من يتجول في الأماكن العامة.
ولما كان الأمر كذلك، وحيث نصت المادة 118 من القانون الأساسي المعدل لسنة 2003 على أنه" فيما لا يتعارض وأحكام هذا القانون الأساسي المعدل تظل سارية القوانين واللوائح والقرارات المعمول بها في فلسطين قبل العمل بهذا القانون إلى أن تعدل أو تلغى وفقاً للقانون." وحيث أنّ مبدأ تدرج وهرمية التشريعات يفترض أن لا يتعارض التشريع العادي مع النص الدستوري، ولما كانت الخصومة في الدعوى الدستورية عينية بطبيعتها ومناطها اختصام النص التشريعي المطعون فيه استهدافًا لمراقبة مدى دستوريته وانضباطه داخل أطر الشرعية الحاكمة على هدى من أحكام القانون الأساسي المعدل لسنة 2003 باعتباره الوثيقة الدستورية النافذة، ولما كان يتعين على إثر ذلك استواء التشريعات جميعها على مرفئ هذا الدستور على قاعدة سموه، وحيث نصت المادة 27/2 من قانون المحكمة الدستورية رقم 3 لسنة 2006 على أنه "إذا تراءى لإحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي أثناء نظر إحدى الدعاوى عدم دستورية نص في قانون أو مرسوم أو لائحة أو نظام أو قرار لازم للفصل في النزاع، أوقفت الدعوى وأحالت الأوراق بغير رسوم إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في المسألة الدستورية"، وحيث تراءى لهذه المحكمة وجود شبهات في مخالفة نص المادة 389/5 من قانون العقوبات رقم 16 لسنة 1960 لأحكام المواد 11 و20 و15 و14 من القانون الأساسي المعدل لسنة 2003 على الوجه الذي بيّناه آنفا، وحيث أن هذا النص المشتبه بعدم دستوريته لازم للفصل في هذه الدعوى الموضوعية، وسندا لكل ما تقدم، وعملا بأحكام المادة 27/2 من قانون المحكمة الدستورية رقم 3 لسنة 2006 تقرر المحكمة وقف السير في هذه الدعوى، وإحالة الأوراق إلى المحكمة العليا الموقرة المأذونة مؤقتا بنظر الطعون الدستورية للفصل في المسألة الدستورية حسب الأصول، وأفهم في 3/9/2013.