السبت، 12 أكتوبر 2013





"عن استقلال القاضي"
رسالة مفتوحة
 
القاضي أحمد الأشقر
لا يكون القاضي مستقلا إلا بانحيازه لله العادل الذي لا يغيب عدله، ولا يختلّ ميزانه، فيكون بذلك جنديا من جنود الرحمن على الأرض، يقيم العدل بما استطاع، لا يرهبه بطش ظالم، ولا تغرّنه حيلة ماكر، ولا تغريه سطوة  الحكم، ولا يستهويه حب التملك.
ولا يكون القاضي مستقلا إن لم يتخل عن نزعة الجاه والغرور، ولوثة التعالي والكِبْر، لأنه وأن كان كذلك بات عبدا لذاته، عاشقا لها حدّ المس بطهارة رسالته، وصفاء سماته، وتجرده عن رضا ذاته وانحيازه فقط لرضا الله.
ولا  يستقل قاضٍ  دون أن ينأى  بنفسه وزوجه وعائلته الدانية عن الخوض في حاجة يتعين على إثرها النزول عن العدل في قضائه إشباعا لرغبة دنيوية عارضة، أو نزعة استرضائية فانية، ودون أن يكون مستقلا بذاته عن رضاء مسؤوليه وأقرانه ،مترفعا عن الجري وراء ترقية أو مدح أو حظوة لدى السلطان واعوانه، ولا يكون مستقلا إن لم تصغر الدنيا في عينه، فيكون المال والنساء ومتع الحياة  كأنما هي إغماضة طرف على محياه لا يلحظها بشر.
 ولا يكون القاضي مستقلا إن لم يكن عزيز الروح، مترفعا عن الهوى واللهو، عصيّ الابتسامة والغضب، نقي السريرة، لا يخوض في أمور العامة خوفا من رأي يلزمه في قضائه.
ولا يستقل القاضي إنّ استدان وإن كان ذلك من غير الخصوم، لأنّ الحاجة ثغرة في الروح ينفذ منها الطامعون إلى حصن القاضي المنيع، فيصير غارقا في سد الذرائع على حساب كرامته، وعدالة أحكامه، ونزاهة مقاصده، وكذلك لا يستقل قاض يقف على باب الناس يستجدي منفعة وإن كانت حقا له، فيصير رهينا لهم، يقتصون منه تارة ويجاملونه تارة أملا في منفعة منه.
ولا يكون القاضي مستقلا  إن لم يخل ذهنه من خوف على قوت عياله، أو رهبة من تعسف من يملك السطوة على رزقه، فيكون جالسا للقضاء على غير ما ينبغي له أن يكون، متوجسا خيفة تحجب عنه الحقيقة، فيصر ملكا للحاكم يأمره وينهاه، ويسوقه إلى مبتغاه، وعندها يصبح القاضي موظفا مرؤوسا، لا يملك من أمره غير الطاعة والخضوع والعياذ بالله.
ولا يستقل قاض اعتاد على مخالطة الساسة، فيُلزم على محاباتهم على حساب حقوق العباد ويستشعر حرجا في مخالفة قولهم وآرائهم، فيختلط الأمر عليه، ويفقد بوصلته في مهب الأهواء والمتغيرات.
وكما لا يكون القاضي قاضيا مستقلا إن لم ينزع عن ثوب السياسة، فإنه لن يكون كذلك إذا ما تراخى في عزل نفسه عن مخالطة المحامين في الأماكن العامة والخاصة، لأنّ حياد القاضي نابع من حدته في درأ مظنة التأثر والشبهات، ولا أكثر من مخالطة المحامين سببا في جلب الشبهة للقاضي وإن كان الأمر على غير الحقيقة.
ولا يستقل قاض يعتريه الحياء في مواجهة التدخل في عمله مهما صغر شأن هذا التدخل من قبل اي شخص على وجه البسيطة، لاسيما من قبل أعزاءه وزملائه وذويه الأقربين، لأن الحياء مقتل الحياد حينما يعتدي الآخرون على استقلال القاضي في حكمه وإجراءاته مهما كان عظم المسببات، ووجاهة الأسباب.
ولا يستقل قاض ضاقت نفسه عن الشعور بالكرامة، فأهانها بالجري وراء الولائم والعزائم والموائد، وقبل دونها أن يكون على عداد المدعوين إلى مناسبات التكريم والتبجيل العامة والخاصة، ويستوي ذلك مع من اعتاد زيارة أصحاب النفوذ من ذوي السلطة والمكانة، لأنّ في ذلك ما يجلب سوء الظّن، ويمس هيبة القاضي مناط استقلاله.
ولا يكون القاضي مستقلا إن خانه الشعور بالغضب والكراهية، فأفقده حياده في الحكم أو الإجراء، فالكراهية والغضب حاجبان يجعلان من القاضي عدوا شرسا لقيم العدالة، ويصيب رسالته القضائية السامية في مقتل لا تقوم لها قائمة بعده.

شكرا لمرورك

شكرا لمرورك على المدونة، يمكنك المراسلة على البريد الإلكتروني
ahmadashkar1@gmail.com